
عززت جائحة كوفيد 19 نظرية لا معنى للمكان، التي كان قد أسس لها عالم الإنترنت، ومواقع تواصله الاجتماعي، فلم يعد بسببها حاجة للمكان، ما دام الكل يستطيع من خلال حاسوبه، وربما جوّاله، التواصل، والتحرك، والعمل مع من يريد ومن لا يريد، دون الحاجة للاجتماع بمكان واحد، قد يكلّف الكثير، ويستنزف معه المال والوقت والجهد وفوقه التوتر، كالمتجه إلى عمله في ساعات الذروة الصباحية، والعائد كذلك.
أما اليوم فهو قادر على توفير ساعات الذهاب والإياب، أوقات الذروة قد يستثمرها في احتساء كوب من الشاي الصباحية، مع الانكباب على عمله في بيته، يشاركه ربما أهله وأولاده في تفاصيل عمله، فيتعرفون حينها على تفاصيل التفاصيل، مما يجعلهم يشاركونه قراراته بفرز ما هو ضروري لخروجه، وما هو ليس بضروري.
حدثني صديق وزميل صحفي أن صحيفة عربية واسعة الانتشار تصدر من لندن يعمل فيها ربما الآلاف من الموظفين والموظفات، لا يحضر أي منهم اليوم إلى المقر الرئيسي، بعد أن ألزمتهم جائحة كوفيد 19 بالمكوث في البيوت والعمل منها، وهذا ما تكرر جزئياً في فترة ذروة كوفيد مع فضائيات عريقة مثل الجزيرة التي نقلت أجهزة بثها المباشرة إلى شقق المذيعين والمذيعات، ليتم البث من البيوت نفسها للحدّ من تفشي الظاهرة، وحرصًا على سلامة العاملين والعاملات في الشبكة.
جانب آخر مهم في تأثير جائحة كوفيد 19 هو انعكاسها على الاقتصاد الذي نعيشه اليوم، وسنعيشه وتعيشه أجيالنا المقبلة، فهو لم يزد فقط من إقبال المستهلكين على مواقع التسوّق الاجتماعي، وإنما غيَّر في نمط حياتنا الاقتصادية والمعيشية، ففي دراسة لتأثير جائحة كورونا على طريقة استخدام الناس للنت للتجارة الإلكترونية تبين من خلال استطلاع، أجرته الأوكتاد وهي منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة، وشمل الاستطلاع 9 دول بينها تركيا، تبين أن نصف المشمولين البالغ عددهم حوالي 3500 شخص يتسوّقون عبر النت، مما دفع الأمين العام للأونكتاد إلى القول إن كوفيد 19 أدّى إلى تسريع التحول نحو عالم رقمي أكثر، وسيكون للتغييرات هذه آثار دائمة مع بدء تعافي الاقتصاد العالمي.
وفي دولة كتركيا تبين أن عدد المستهلكين عبر التسوق الإلكتروني زاد بنسبة 41 %، بينما زاد شراء آلات صناعة الخبز عبر مواقع التسوق بـ 14 ضعفا. وتحدثت دراسة عن تحوّل القطريين بنسبة 100 % إلى التسوق الإلكتروني، وأنهم يرغبون بالاستمرار بالشراء عبره حتى بعد زوال جائحة كوفيد 19.
لقد أبرز معنى اللامكان وجوداً صاعداً للشركات الصغيرة الناشئة، ودفع بالشركات الكبرى إلى الخلف، ما دام أصحاب الشركات الصغيرة يديرها أصحاب العقول الشبابية الأكثر قدرة على التعامل مع النت ومع العالم الجديد، بخلاف حركة الشركات التقليدية الكبيرة التي قد تشبه حركة الفيل، بينما شركات الشباب الصغيرة والرشيقة أشبه ما تكون بتقافز الأرانب وهو ما يحتاجه المستهلك في هذه الظروف بأن تكون الاستجابة كسرعة النت، الذي يجيده.
لم يقتصر معنى اللامكان على الموظفين والشركات، وإنما تعدّاه إلى الدول، فقد نجحت الصين في ترجمة نظرية اللامكان حين شجعت البث المباشر وعلى مدى ساعتين فقط يوم 6/11 من العام الماضي على التسوّق الافتراضي في شراء الصنوبر الأفغاني، كبادرة على تشجيع الاقتصاد الأفغاني، واستجابة منها لطلب الحكومة الأفغانية، فنجحت العملية في بيع 120 ألف علبة صنوبر بلغ وزنها 20 طنا، فجنى المزارعون الأفغان من جرّائها 20 مليون دولار، مما سيُشجعهم أكثر على مواصلة هذه الزراعة بعد أن خشوا أن تكسد، فيُثبطهم ذلك عن مواصلة زراعتها مستقبلاً.
هنا برز دور القوة الناعمة للدول في التعاطي مع الآخر، فقد وظّفت الصين قوتها الناعمة الاقتصادية، وحتى التسوّق الإلكتروني لتعزيز صداقتها مع الحكومة الأفغانية، بل مع الشعب الأفغاني ومزارعه، بينما رأينا نتائج القوة الخشنة الأمريكية في أفغانستان طوال الحرب الممتدة لعقدين، والتي لا تزال تصرّ على استخدامها حتى اليوم عبر عقوبات اقتصادية، وتجميد أرصدة مما انعكس بشكل خطير على الحياة المعيشية للشعب الأفغاني الذي يشعر غالبيته أن ما هو فيه من محنة اقتصادية ومعيشية مردّه للعقوبات الأمريكية المفروضة عليه.
هل تدرك الدول أن لا معنى للمكان اليوم في العلاقات الدولية؟! كما أدركت الشعوب ذلك في عالم النت والكورونا. ربما معادلة صعبة أن تفهمها دول تتحرك حركة الفيل، فما ينطبق على عالم الأفراد ينطبق على عالم الدول.