
ملف إدلب معقد جدا ومتشابك، وذلك عائد للاعبين الدوليين والإقليميين وحتى المحليين فيه، أنا أعجب ممن يتسرع ويُنظّر عن مصير إدلب ويقدم القراءات والتحليلات، ويكتب أو يحاضر في هذا، علمتنا الثورة السورية خُلق نبيل وهو التأن وعدم العجالة، فمنذ بدأت الثورة والأحداث تتسارع والأطراف تتكاثر على الرقعة السورية، من كان يظن أن الثورة ستبلغ عامها العاشر، وسط محيط متوحش مليء بالكيد والمكر واللهف خلف المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية، صحيح الثورة السورية أضعف حلقة في الصراع ووزنها لا يكاد يذكر في المحافل الدولية مع الكبار، لكنها تعتبر كمؤشر الميزان الذي يحقق التوازن ويعطي الإشارات، في هذا المقال سأسلط الضوء على جانب من هذه الجوانب.
بعد أن تمكنت الثورة في ربيع 2015 من تحرير عدة مدن وبلدات خاصة تحرير مدينة إدلب والمعسكرات المحيطة بها وسهل الغاب ووادي الضيف وجسر الشغور، دق المجتمع الدولي ناقوس الخطر، وعقدت الاجتماعات السرية والعلنية لدراسة الوضع الخطير، كان نظام الإجرام ذيل الكلب قاب قوسين أو أدنى من التهاوي وإني لحد الساعة أفتخر بالتجرية السورية في ذلك الوقت حيث كان جيش الفتح أنجح تجربة شهدتها الثورة منذ انطلاقها وإلى اليوم، وهذا بعد اجتماع الكلمة ووحدة الصف، هذا إن أضيفت له الإرادة القوية والرغبة الصادقة في النصر انتصرت الشعوب المقهورة ولا بد .
كان الحل يومها ضرورة إفشال جيش الفتح مهما كان السبب، لأن استمراره يهدد أركان القصر الجمهوري في دمشق، بعده جاء التدخل الروسي العسكري بشكل مباشر، لتشهد سوريا المحررة معارك فاصلة وعنيفة بين فصائل الثورة والمحتل الروسي أو بين هذه الفصائل أنفسها في سوء تقدير التوقيت مهما كانت الأسباب والدواعي، فالمصلحة كانت تصب في صالح العدو، والمسؤولية يتحملها الجميع، وفعلا تم إضعاف وتشتيت جيش الفتح، كتجربة ناجحة رائدة للأسف، ومع ذلك استمرت الثورة في بضعة فصائل توحدت فيما بعد في هيئة تحرير الشام، التنظيم القريب للفكر الجهادي، والجبهة الوطنية للتحرير القريبة من الجيش السوري الحر، ودخلت الثورة في معارك حاسمة كانت السيطرة فيها للمحتل وميليشياته، حيث اقتطعت أجزاء واسعة من ريف إدلب وحلب وحماة، وانحصرت الثورة في منطقة إدلب وعدة أرياف شمال وجنوبا وشرقا وغربا، وكان للتدخل التركي دور بارز في وقف زحف روسيا ونظام بشار نحو باب الهوى وإدلب المدينة.
إلى اليوم يصعب تخيل الحل السوري، عندنا محتل غاشم يهوى السيطرة والدم، ونظام متهاوي هش لا سلطة له، وفصائل تبني نفسها وتتطور يوم بعد يوم تدافع عن قضيتها العادلة، وعندنا الحليف التركي، الدولة الوحيدة فيما يبدو التي لا زالت تقف مع الشعب المقهور في سوريا أو في المناطق الخارج عن سيطرة بشار الأسد، تركيا تمنع بأي شكل من الأشكال شن حرب على إدلب، لأن ذلك يعني موجة نزوح بالملايين نحو عقر دارها، هذا مما يهدد الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي، وليس تركيا فحسب فمرارا صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تركيا لن تتحمل وحدها هذا العبء وستشرك الدول الغربية ولا بد، هذا التهديد وهو واقعي يدفع الدول الغربية إلى عدم تأييد خيار الحرب.
وإذا نظرنا إلى الداخل نجد الفصائل خصوصا هيئة تحرير الشام توسع من علاقاتها الدولية وتبعث الرسائل من خلال قياداتها كأبي محمد الجولاني وعبد الرحيم عطون وعبر حساب التواصل المسمى تقي الدين عمر، أنها لا تهدد أحدا خارج حدودها وتحصر معركتها مع الأسد وإيران، وترفض خيار تصنيفها على قوائم الإرهاب الدولية وتعبتره تصنيفا سياسيا وتطالب بتصنيف الأسد، هذه الرسائل وغيرها تدفع المتلقي إلى إعادة قراءة المشهد وتأجيل النظر، أو تجميد الوضع كما هو، لذلك فالملف معقد، خصوصا مع بقاء ملف الأكراد في شمال شرق سوريا يؤرق الجميع، ويعطي توازن أكثر للساحة السورية.