
في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن سحب القوات الأمريكية من سوريا، مبررًا ذلك بهزيمة "تنظيم الدولة"، معتبرة المبرر الوحيد للوجود هناك، كما أشارت "دانا دبليو وايت" المتحدثة باسم البنتاغون، إلى أن عملية إعادة القوات الأمريكية من سوريا قد بدأت، وفي حين لم يشر القرار لأي جدول زمني، صرح مسؤول أمريكي أن واشنطن تريد سحب القوات في فترة تتراوح بين 60 يومًا و100 يومًا، وأن وزارة الخارجية بدأت عملية لإجلاء موظفيها من سوريا خلال 24 ساعة.
وفي 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن متحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، أن وزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس وقَّع أمرًا بسحب القوات الأمريكية من سوريا، تنفيذًا لقرار ترامب، حديث ترامب عن سحب قواته من سوريا ليس بالأمر الجديد، فقد أعلن في 29 مارس/آذار الماضي، أن بلاده تعتزم سحب قواتها من سوريا قريبًا جدًا. ويمثل الملف السوري نقطة التقاء اهتمام العديد من القوى الدولية والإقليمية، وهو ما يفسر الزخم الحاصل في ردود فعل هذه القوى على هذا القرار، والذي ستتطرق هذه الورقة لأبعاده وردود الفعل عليه وتداعياته ومساراته، مع التركيز على الحسابات التركية من عملية الانسحاب.
أولًا، ردود الفعل
تباينت ردود الفعل على قرار دونالد ترامب بسحب قواته من سوريا، ويمكن تناولها في ثلاثة مستويات:
مستوى الداخل الأمريكي:
واجه ترامب موجة اعتراض كبيرة من داخل المؤسسات الأمريكية، على رأسها الكونجرس والبنتاغون. فقد صرح السناتور الجمهوري لينزي جراهام، بأن القرار خطأ، وأن أي انسحاب أمريكي في هذا التوقيت سيكون انتصارًا كبيرًا لتنظيم الدولة وإيران وبشار وروسيا. وفي 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي عن مشروع قرار يدعو الرئيس إلى التراجع عن القرار. وبعد ثلاثة أيام من اتخاذ قرار الانسحاب، ونتيجةً لتصاعد الخلافات بين ترامب والكونجرس، أغلقت الحكومة الفيدرالية العديد من الإدارات الفيدرالية. وفي 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس استقالته على خلفية قرار الانسحاب من سوريا، تبعه في الثالث والعشرين من نفس الشهر بريت ماكغورك، المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي ضد "تنظيم الدولة"، وهو ما دفع ترامب لمهاجمتهما.
المستوى الإقليمي:
النظام السوري: صرح بطرس مرجانة، رئيس لجنة الشؤون العربية والخارجية في البرلمان، إذا كان الانسحاب صحيحًا فإنه اعتراف بأن سوريا قد انتصرت، وأن هذه التصريحات لا يعول عليها، إلا عندما تبدأ خطوات عملية على الأرض بالانسحاب.
إيران، صرح وزير الخارجية جواد ظريف، بأن الوجود الأمريكي في سوريا غير قانوني، ومن المبكر الحكم على نية واشنطن المستقبلية.
تركيا، في البداية أعرب وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو عن ترحيب بلاده بالقرار، وأكد ضرورة التنسيق بين أنقرة وواشنطن كي لا يحدث فراغ في المنطقة. كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده من ستتولى مهمة قتال "تنظيم الدولة" في سوريا بعد انسحاب أمريكا.
إسرائيل: صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن القرار أمريكي، وسيدافعون عن أنفسهم في هذه الساحة، كما أكد المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة داني دانون، على أن إسرائيل تحترم القرار لكن تل أبيب لديها مخاوفها الخاصة. كما أشار نتنياهو أيضًا إلى أن بلاده لا تعتزم تقليص جهودها المتعلقة بمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا بل ستكثفها، وبتأييد ودعم كاملين من الولايات المتحدة.
الأكراد: أصدرت قوات سوريا الديموقراطية بيانًا أكدت فيه على أن القرار يخدم الجماعات الإرهابية، داعيةً إلى دعم دولي أكبر في معركة الإرهاب التي لم تنته بعد في سوريا.
المستوى الدولي:
الموقف الأوروبي، بالنسبة لفرنسا، أعلنت وزيرة فرنسا للشؤون الأوروبية ناتالي لوازو، أن فرنسا ستبقى ملتزمة عسكريًّا في سوريا حتى بعد الانسحاب الأمريكي. وفي 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، اجتمع مسؤولون بالرئاسة الفرنسية مع ممثلين لـ"قوات سوريا الديمقراطية" في باريس، وأكدوا على دعم فرنسا لهم. وفيما يتعلق ببريطانيا، قالت وزارة الخارجية في بيان لها، إن "تنظيم الدولة" مازال يمثل تهديدًا، وأنها ستواصل العمل مع الدول الأعضاء في التحالف الدولي من أجل مواجهته. وفي ألمانيا، صرح وزير خارجيتها هايكو ماس، أن هذا القرار متسرع وخطير، كما حذر من أن يتسبب الانسحاب في تقوية تنظيم "تنظيم الدولة".
الموقف الروسي، فقد أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، أن هذا القرار يفتح آفاقًا للتسوية السياسية، وأنه سيؤثر إيجابًا على تشكيل اللجنة الدستورية السورية، لكنها أشارت في النهاية أن عملية الانسحاب مبهمة وضبابية. أيضًا صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن هذا القرار غير واضح الملامح بعد، خاصةً وأن القوات الأمريكية ادعت انسحابها من قبل من أفغانستان لكنها لازالت موجودة هناك. وأخيرًا ألمح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، إلى أنه لا يصدق أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها من سوريا.
وبقراءة لردود الفعل الداخلية والإقليمية والدولية، يمكن الإشارة لعدة نقاط:
أولًا، ردود الفعل الأمريكية الداخلية المعارضة للقرار، والتي لم تقتصر فقط على معارضي ترامب بل حتى حلفائه ومؤيديه، وشملت الكونجرس والبنتاغون، توحي بأن هذا القرار اتخذه ترامب بشكل منفرد، لحسابات معينة فقط هو من اقتنع بها، وسيتم التطرق بشكل مفصل لهذه الجزئية عند الحديث عن أبعاد القرار.
ثانيًا، المفارقة هنا أن الدول الأكثر تضررًا من هذا القرار، الأولى إسرائيل تفهمت الموقف الأمريكي واعترضت عليه على استحياء، الثانية السعودية والأردن لم تصرحا ولم تقما بأي رد فعل حتى الآن. أما الدول الأوروبية، والتي يأتي تأثير هذا القرار عليها سلبيًّا في مرتبة تالية بمسافة كبيرة بعد إسرائيل ودول الخليج، فكانت أكثر حدةً ووضوحًا في الاعتراض على القرار. ولعل تفسير الموقف الأوروبي ليس خشيتها فقط من إيران، بل أيضًا من عدوها اللدود روسيا الذي يعبث في عمقها الإستراتيجي بالأخص أوكرانيا، فضلًا عن مسألة اللاجئين. ومن ثم فهي لا تريد أن تترك الساحة السورية لتكون مجالًا للنفوذ الروسي بدون مقابل، وإنما استغلال الملف السوري ومقايضته بملفات تخص الأمن القومي الأوروبي كالملف الأوكراني. وبالتالي ترى في الانسحاب الأمريكي بهذا الشكل خسارة فادحة.
ثالثًا، يبدو أن فرنسا من بين دول أوروبا الأكثر حضورًا عسكريًّا وسياسيًّا في شرق الفرات، وهي أيضًا الأكثر حدة في رد فعلها تجاه قرار الانسحاب الأمريكي. ويمكن قراءة هذا الموقف في ضوء دوافع إضافية، تتعلق بمزاحمة روسيا وتركيا مؤخرًا النفوذ الفرنسي في ساحتها التقليدية التاريخية في أفريقيا. فقد شرعت تركيا في بناء قواعد عسكرية خارجية، كان آخرها بناء أكبر قاعدة لها في الخارج في الصومال، لتضمن تركيا بذلك حضورًا في القرن الأفريقي، ومنافسًا لفرنسا المتواجدة في المنطقة من خلال أهم قواعدها في جيبوتي، التي تؤمن من خلالها حركة التجارة في مضيق باب المندب. أما روسيا فقد استطاعت مؤخرًا أن تقتنص أفريقيا الوسطى من فرنسا، وتجعل منها ساحة نفوذ لها، للدرجة التي تجعل القصر الرئاسي في أفريقيا الوسطى تحت حماية جنود روس.
ثانيًا، أبعاد القرار
لقد أعلن دونالد ترامب في حيثيات قراره بأن عملية القضاء على تنظيم "داعش" قد انتهت بنجاح، وهو السبب الوحيد لوجود القوات الأمريكي في سوريا، في مخالفة صريحة لتصريحات سابقة له ولمستشاريه، تحدثت عن أن الوجود الأمريكي في سوريا مرهون بالقضاء على تنظيم "تنظيم الدولة"، وإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا. وتذهب هذه الورقة إلى أن هذا القرار على الأرجح قرار فردي، يعبر عن رغبات ترامب أكثر منها تعبير عن رؤية إستراتيجية للمؤسسات الأمريكية، وأن العديد من مساعديه ومستشاريه لم ينسق معهم، ولم يعلموا به إلا في الأيام الأخيرة قبل الإعلان عنه. ما يرجح ذلك، فضلًا عن استقالة ماتيس وماكغورك، اللذين حذرا من كارثية الانسحاب، وإغلاق الحكومة الفيدرالية على خلفية هذا القرار.
1ـ إعلان بريت ماكغورك في 11 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل أسبوع من اتخاذ القرار، أن القوات الأمريكية ستواصل البقاء في سوريا، لحين تشكيل قوات أمن داخلية لضمان الاستقرار، أي باقية حتى بعد القضاء على "تنظيم الدولة"، وفي نفس الشهر، أعلن جيمس جيفري المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا، أن الولايات المتحدة باقية في سوريا؛ لضمان عدم ظهور تنظيمات متشددة مثل "تنظيم الدولة"، وإخراج القوات الإيرانية من سوريا، وتحقيق انتقال سياسي في البلاد.
2ـ إعلان جيمس ماتيس في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن إنشاء نقاط مراقبة عسكرية أمريكية على الحدود السورية الشمالية، احتجت عليها تركيا، كما أكد الجنرال “جوزيف دانفورد” رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية في 6 ديسمبر/كانون الأول الماضي، على حاجة واشنطن لتدريب 35 – 40 ألف مقاتل في سوريا، وأنه تم إنجاز هذا العمل بنسبة 20%، في ذات السياق، أعلنت قوات سوريا الديموقراطية بتخريج الدورة الأولى من "حرس الحدود" والتي ضمت 154 عنصرًا.
ثالثًا، الأكثر قربًا من ترامب، وزير خارجيته مايك بومبيو ومستشاره للأمن القومي جون بولتون، ليسا على وفاق معه في هذا القرار، فالأول وأثناء مقابلة تلفزيونية معه، تحدث عن أن القرار اتخذ بعد إجراء الكثير من المشاورات مع جميع المسؤولين رفيعي المستوى، أونه قدم له أكثر من مجرد تحذير. والثاني، كان قد أكد في يوليو/تموز الماضي، على أن القوات الأمريكية باقية في سوريا إلى حين زوال الخطر الإيراني.
إذا كان هذا القرار يعبر عن رغبات ودوافع "ترامب"، فما هي؟ من الممكن أن تكون أحد الدوافع التالية:
هزيمة "تنظيم الدولة"، وبرغم أن التنظيم لم يتم القضاء عليه تمامًا، إلا أنه لم يعد يسيطر إلا على مساحة لا تتجاوز 2% من مساحة سوريا، متمثلة في قرى السوسة والشعفة والباغوز والشجلة والمراشدة والسفافية والبوبدران في الجنوب الشرقي لدير الزور في شرق الفرات، فضلًا عن الجيب الكبير المسمى بالسخنة في غرب الفرات. وبالتالي تعتبر إزاحة "تنظيم الدولة" من القرى المتبقية في شرق الفرات مسألة وقت، ليتبقى جيب كبير السخنة، لكن ستوكل مهمة القضاء عليه لقوات النظام وحلفائه؛ لتواجده في غرب الفرات في قلب مناطق سيطرة النظام.
يعبر هذا القرار عن ميل ترامب لمبدأ الانعزالية على المستوى الدولي، ورافعًا شعار "أمريكا أولًا"، يسعى في إطاره تقليل الوجود الأمريكي العسكري في الخارج وعدم تكرار أخطاء الماضي. لكنه في ذات الوقت يفتقد في إدارة سياسته الخارجية لحقائق ومفاهيم ثابتة في العلاقات الدولية، كالحليف الإستراتيجي والنظام الدولية وبنيته، وضرورة المحافظة على شكله الحالي لضمان السيطرة الأمريكية. وهو ما يدفعه للبحث عن المكاسب المادية الآنية، دون الأخذ في الاعتبار المصالح الأمريكية في المنطقة ومصالح حلفائها الإستراتيجيين.
قد تكون محطة جديدة من محطات متكررة في سياق ابتزاز "ترامب" للسعودية، لجني المزيد من الأموال، بما ينعكس على مواطنيه في الداخل بشكل إيجابي، وتقوى فرصته في الفوز بفترة رئاسية ثانية.
ما يرجح ذلك، تصريح "ترامب" في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي بعد خمسة أيام من إعلان القرار، أن السعودية وافقت على إنفاق الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا بدلًا منا. ويبدو أن "ترامب" لا يفرق في إدارته لدولة بحجم أمريكا عن إدارته لإحدى شركاته، والتي يرغب في نهاية فترته أن تحصد أكبر قدر ممكن من الربح، بغض النظر عن علاقة الولايات المتحدة بحلفائها، وموقعها في النظام الدولي وموازين القوى داخل هذا النظام. إنه لا يعي أن القوة التي تستمدها الولايات المتحدة، وتمكنه من ابتزاز الجميع نابعة من موقعها في نظام دولي أحادي القطبية. وبالتالي السياسيات الترامبية التي من الممكن أن تقوض هذا النظام، قد تمكن روسيا على المدى البعيد من الصعود ومعها الصين كـأقطاب منافسة لبلده، وهي أكبر خسارة ممكن أن تتعرض لها الولايات المتحدة في تاريخها.
منذ أن أدى التوتر في العلاقات الأمريكية التركية لتحسن مقابل في العلاقات التركية الروسية، ودخول البلدين لمرحلة التنسيق السياسي والأمني في سوريا، والشركات الاستراتيجية الاقتصادية، من خلال مشاريع أنابيب الغاز وصفقة صواريخ إس 400 ومحطة الطاقة النووية التركية، وهناك خشية أمريكية أوروبية من إمكانية نجاح بوتين في إحداث شرخ في حلف الناتو، في ظل الحديث عن اختراق روسي للغرب، من خلال العامل العسكري والسياسي والسيبراني. لقد أدت المماطلة الأمريكية في تفهم المخاوف والمصالح التركية لدخول العلاقات التركية الروسية مرحلة متقدمة يصعب محوها بسهولة، أيضا هناك دعم تركي واضح وقوى للاتفاق النووي الإيراني، ورافض للعقوبات الأمريكية على إيران.
وقد يسعى ترامب من خلال قرار الانسحاب من سوريا، لإحداث شرخ في منصة أستانا روسيا وتركيا وإيران، ليؤدي بذلك لتباعد تركي روسي، ويخلق حاجة تركية ماسة للولايات المتحدة، بعد أن تفقد قدرتها على المناورة بين المحورين الأمريكي والروسي. أيضا قد يؤدي القرار لتوتر في العلاقات التركية الإيرانية، توتر سيدفع تركيا للتضامن مع ترامب في استراتيجيته المناهضة لإيران، والالتزام بعقوباته على إيران. ما يؤشر لذلك، إعلان ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، في 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أنه لا توجد خطط للقاء قريب بين الرئيس الروسي نظيره التركي، وذلك ردًّا على إعلان تركيا عن لقاء مرتقب بين أروغان وبوتين. أيضًا تصريح الخارجية الروسية أن السلطات السورية يجب أن تسيطر على الأراضي التي سيخرج منها الأمريكيون. وذلك ردًّا على تركيا التي تقول إنها ستخلف أمريكا في هذه المنطقة.
يحتدم صراعًا داخليًّا في أمريكا طرفاه البيت الأبيض والكونجرس، وذلك على خلفية ضغط الأخير تجاه إنهاء الدعم الأمريكي المقدم للتحالف العربي في اليمن وإنهاء الحرب، وكذلك تجاه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بعد أن مرر الكونجرس قرارًا يتهم "بن سلمان" بقتل جمال خاشقجي، والحديث عن احتمالية فرض عقوبات عليه. ومن ثم يمكن قراءة القرار في ضوء مناكفة من ترامب تجاه الكونجرس، حيث يمكنه استخدام هذا القرار لعقد صفقة مع المؤسسات في الداخل كما يفعل مع الخارج.
مازالت تركيا مستمرة في تصعيدها في قضية مقتل "خاشقجي"، تصعيد قد يؤدي في النهاية للإطاحة "بابن سلمان" حليف "ترامب" الوفي. وبالتالي يمكن قراءة القرار في إطار مساعي "ترامب" لتأمين حكم "ابن سلمان"، وتصحيح علاقات بلاده بحليف إستراتيجي كتركيا. وإذا كانت تركيا رافضة لاستخدام قضية "خاشقجي" في مناورات سياسية، فإنها على الأقل ستكون مضطرة لتهدئة الوضع حتى حل معضلة شرق الفرات، والتي من المرشح أن تطول مدتها، بما قد تؤدي في النهاية لتجاوز "ابن سلمان" هذه الأزمة.
على وقع تحقيقات الداخل مع "ترامب"، التي يجريها معه المحقق الخاص روبرت مولر، بخصوص تواطؤ محتمل بين حملته التي أدارت الانتخابات وروسيا، يحاول "ترامب" من خلال هذا القرار الصادم، الهروب للأمام ليتجاوز هذه الأزمة، فضلًا عن أزمته مع الكونجرس.
ثالثًا، مسارات القرار
استنادًا للدوافع المذكورة سابقًا، كالتخلص من "تنظيم الدولة"، الذي رأى ترامب أنه السبب الوحيد لوجود القوات الأمريكية في سوريا، وعقيدته السياسية المتمثلة في تقليل التواجد العسكري الخارجي، فهو يميل للانعزالية الدولية، فضلًا عن تعامله مع العلاقات الدولية بمبدأ الصفقات التجارية، التي تهدف لتحقيق أقصى ربح ممكن في المدى المنظور، بغض النظر عن حقائقها الإستراتيجية، بالإضافة لرغبة ترامب في دق إسفين في العلاقات التركية الروسية من ناحية، والعلاقات التركية الإيرانية من ناحية أخرى، وأخيرًا رغبته في ضمان مصالح بلاده مع حليفه التركي الإستراتيجي، وتأمين حكم حليفه محمد بن سلمان. واستنادًا لهذه الدوافع، فإن سيناريو الانسحاب يبدو منطقيًّا ومرجح.
ولكن في المقابل هناك عدة عوامل تجعل من الصعب اتخاذ قرار بالانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا:
أولًا، تعد منطقة شرق الفرات ذات أهمية كبيرة من الناحية الجيواقتصادية؛ حيث تحتوي هذه المنطقة على 80% من المناطق الزراعية، ونحو 60% من آبار النفط والغاز في سوريا، وتسيطر الولايات المتحدة من خلال دعمها "لقوات سوريا الديموقراطية" على كل المناطق النفطية في شرق الفرات، مثل حقل العمر والتنك والورد والتيم والجفرة وكونيكو ومحطة "التي تو"، وهي محطة تقع على خط النفط العراقي السوري، والرميلان فضلًا عن الغاز الموجود في حقول السويدية. واستنادًا لسيطرة الولايات المتحدة على هذه المنطقة الغنية، يمكنها استغلالها كورقة ضغط في مواجهة الروس، لإجبارهم على ضمان مصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة، بالأخص ما يتعلق بالنفوذ الإيراني في سوريا، خاصة وأن النظام السوري سوف يكون في حاجة ماسة للموارد النفطية والزراعية ومداخيلها من أجل إعادة الإعمار.
ثانيًا، تمثل شرق الفرات بالإضافة لمنطقة التنف التي تسيطر عليها الولايات المتحدة في الجنوب السوري أهمية جيوعسكرية، لتماسها مع الحدود العراقية والأردنية بالغة الحساسية. ويمكن للولايات المتحدة من خلال تواجدها في هذه المناطق قطع الممر البري الإيراني الواصل من طهران لبيرون وشرق المتوسط، الذي حتمًا يمر بأحد المعابر الموجودة بين الحدود العراقية السورية. وبرغم عدم نجاحها بشكل كامل في قطع هذه الطرق، لسيطرة الميليشيات الحليفة لإيران على معبر البوكمال الرسمي، والبعاج الغير رسمي، إلا أنها استطاعت السيطرة على معبر اليعربية في الحسكة، والتنف في الجنوب السوري، وهو الممر الرئيسي لنقل الأسلحة الإيرانية لسوريا ولبنان. فضلًا عن أن الانسحاب سيعطي حرية أكبر لإيران في التمدد والانتشار في سوريا والمنطقة، وهو ما يتناقض مع استراتيجية "ترامب" الساعية لإنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة.
ثالثًا، فضلًا عن تواجد ما يقرب من 2000 جندي أمريكي، تنتشر العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا بشكل يجعل من الصعب التخلي عنها، فهي توحي بتموضع طويل الأمد. ومن أهمها: مطار رميلان وقاعدة عين العرب (كوباني) وتعد القاعدة الأكبر من بين قواعد القوات الأمريكية، وقاعدة الشدّادي بين محافظتيّ الحسكة ودير الزور، وقاعدة عسكرية في حقل العمر النفطي، يضاف إلى ذلك قاعدة المبروكة في محافظة الحسكة، ومطار روباريا شمال شرقي الحسكة، بالقرب من الحدود مع كل من العراق وتركيا، إضافة إلى قاعدة تل بيدر شمال غربي الحسكة، وقاعدة تل أبيض، كما توجد قوات أمريكية إلى جانب قوات من دول التحالف الدولي والمعارضة المسلحة في قاعدة التنف السورية على المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني.
رابعًا، خطورة هذا القرار على أمريكا ومصالح حلفائها الإستراتيجيين. فأمريكا تدرك أن تركيا وحدها لا تستطيع السيطرة مع حلفائها على كامل منطقة شرق الفرات، وبالتالي ستعطي الفرصة لإيران وميليشياتها في حال انسحبت بشكل كامل، للانتشار بسهولة حول الحدود السورية العراقية. لذلك من الممكن أن يترك "ترامب" جزء من القوات في سوريا تكون مهمتها التمركز على طول حدودها الشرقية. كما أن الوجود الأمريكي في سوريا في منطقة ذات أهمية جيوإستراتيجية بهذا الحجم، يمكن أن تمثل ليس ورقة ضغط فقط فيما يخص الداخل السوري، بل أيضا ورقة تقايض بها أمريكا روسيا في ملفات أخرى دولية وإقليمية.
خامسًا، التشكيك الكبير من قِبَل روسيا وإيران والنظام السوري تجاه قرار الانسحاب، في المقابل تفهم إسرائيل للقرار الأمريكي وانتقاده على استحياء، والصمت الخليجي بالأخص السعودية. يشير إلى أن أغلب الأطراف تدرك أنه لا نية لحدوث انسحاب أمريكي كامل وترك الساحة خالية، فضلًا عن تطمينات لحلفاء واشنطن. في ذات السياق، نقل المرصد السوري لحقوق الإنسان أن التحالف الدولي بدء في إقامة قاعدة عسكرية جديدة في شرق الفرات، في منطقة هجين الواقعة عند أطراف الجيب الخاضع لسيطرة "تنظيم الدولة"، كما وصلت تعزيزات إلى منطقة شرق الفرات، خلال الأيام الماضية بعد الإعلان عن قرار الانسحاب من وقود ومعدات عسكرية ولوجستية وآليات، كما أن هناك تعزيزات عسكرية وصلت إلى القواعد العسكرية في منبج وحقل العمر. أي ليس هناك حتى الآن ثمة ما يوحي بأن الولايات المتحدة تعد لهذه الخطوة.
المسار المرجح
استنادًا للمعطيات السابقة، فإن المسار الذي ترجحه الورقة هو انسحاب أمريكي جزئي، تنتقل معه الولايات المتحدة لمرحلة جديدة ما بعد "تنظيم الدولة". وسيكون التركيز فيها على ضبط الأمن والاستقرار في المنطقة، والحيلولة دون عودة التنظيم من جديد، وهو ما يتطلب تواجدًا عسكريًّا أقل. ومرجح أن يرفق ذلك تخلي جزئي عن الأكراد بعد أن أدوا الجزء الأكبر من مهمتهم في مواجهة "تنظيم الدولة" بنجاح لصالح الحليف التركي. وعلى الأرجح فإن الولايات المتحدة سوف تنسحب عسكرياً لصالح تركيا وبتنسيق معها من أغلب مناطق الشريط الحدودي الشمالي بالأخص تل أبيض، فضلًا عن مدينة منبج. لتركز الولايات المتحدة أكثر على عمق شرق الفرات في ودير الزور وأجزاء من الرقة والحسكة والقامشلي لتضمن مراقبة المعابر الحدودية، والسيطرة على آبار النفط والغاز.
لكن يجب الإشارة هنا لنقطتين هامتين، الأولى، أن السيطرة التركية ليست مضمونة، فهي تتوقف على قدرتها على استمرار تنسيقها مع الجانبين الأمريكي والروسي في آن واحد في سوريا، والموازنة في علاقاتها بين الجانبين، لأن التواجد التركي في سوريا بالأساس تم بتوافق وموافقة روسية، وهو ما سيكون محددًا أساسيًّا لكيفية التعاطي التركي مع صواريخ إس 400 والباتريوت. الثانية، أن الولايات المتحدة من الممكن أن تتخلى عن مناطق النفط والغاز في عمق شرق الفرات. لكن ليس مرجحًا أن تغامر تركيا بالدخول لهذه المناطق؛ أولًا لعدم قدرتها وثانيًا لعدم إغضاء الجانب الروسي. ومن ثم حينها ستكون روسيا الأقرب وهو مل سيتطلب منها تقديم ثمن مقابل للأمريكان. أما عن المنطقة الحدودية الشرقية فمن الصعب التخلي عنها في المدى المنظور.
وبالتزامن مع تقليل التواجد الأمريكي في سوريا، فإنها تكثف تموضعها في العراق على حدودها الغربية مع سوريا، لإحداث توازن عسكري في المنطقة، ولتكون العراق منصة عسكرية تنطلق منها لتوجيه ضربات داخل سوريا. حيث قام الجيش الأمريكي بإنشاء قاعدتين عسكريتين جديدتين غرب العراق، أحدهما على بعد أقل من 100 متر من الحدود السورية، وذلك بعد أقل من أسبوع من قرار الانسحاب. أيضا قام "ترامب" بزيارة مفاجئة للعراق لزيارة القوات الأمريكية المتمركزة هناك. بالإضافة إلى سعيها في الأيام المقبلة عسكريًّا لتعميق دور قوات “بشمركة روج آفا”، وهي على وفاق مع الحكومة التركية، كما أعلن جيفري في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
رابعًا، الحسابات التركية
منذ أن أعلن دونالد ترامب عن قراره بالانسحاب من سوريا، وأغلب الاهتمامات تنصب على تركيا، بحكم حقائق الجغرافيا السياسية، ووزنها الإقليمي، ومدي التأثير المنعكس عليها من الأزمة السورية، ومن ثم مدى تأثرها بهكذا قرار.
مؤشرات التحسن في العلاقات البينية
في البداية وقبل الإعلان عن القرار، كانت هناك عدة مؤشرات تشير لتحسن نسبي في العلاقات التركية الأمريكية، بدءًا من الإفراج التركي عن القس الأمريكي أندرو برانسون في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مرورًا باستثناء تركيا من العقوبات الأمريكية المفروضة على واردات إيران النفطية، في نوفمبر الماضي. وفي 17 ديسمبر/كانون الأول، أعلن تشاويش أوغلو، عن أن مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي يجري في 15 ولاية تحقيقات بشأن أنشطة منظمة غولن، وقد بدأ تنفيذ اعتقالات في صفوف أنصاره بولاية نيوجيرسي، كما أكد على أن واشنطن تدرس إمكانية تسليم فتح الله غولن إلى أنقرة. وأخيرًا صفقة الباتريوت، في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل يوم من الإعلان عن القرار، حيث صرحت وزارة الدفاع الأمريكية، بأن وزارة الخارجية أخطرت الكونجرس بموافقتها على صفقة محتملة لبيع أنظمة باتريوت للدفاع الجوي والصاروخي إلى تركيا، بقيمة 3.5 مليار دولار.
مؤشرات التنسيق والتعاون بشأن القرار
من المؤشرات السابقة، يبدو أن العلاقات الأمريكية التركية دخلت مرحلة جديدة تتسم بالتحسن النسبي، وقد انعكس هذا التحسن على التنسيق الحالي فيما يتعلق بالانسحاب الأمريكي من سوريا، ومن مؤشرات ذلك:
في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن "أردوغان" عن قرب انطلاق عملية عسكرية في شرق الفرات، تلاه في 14 ديسمبر/كانون الأول، اتصال هاتفي بين "أردوغان" و"ترامب" اتفقا فيه على ضمان تنسيق فعّال أكثر في سوريا، وتفهم "ترامب" للمخاوف الأمنية التركية. أي أن التفاهم والتنسيق بين الجانبين سبق قرار الانسحاب بخمسة أيام. وفي 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن "أردوغان" في أحد مؤتمراته، أنه تلقى ردودًا إيجابية من "ترامب" تجاه العملية المرتقبة في شرق الفرات، والتي لن تلحق ضررًا بالجنود الأمريكيين. ثم بعد ذلك في 18 ديسمبر/كانون الأول، أعلن "جيفري" عن دخول قوات "بشمركة روج آفا" الكردية لمناطق شرق الفرات، وهي على وفاق مع الحكومة التركية، وقد انتقلت من مراكز تدريبها في شمال العراق إلى سوريا بدعم أمريكي.
وفي 19 ديسمبر/كانون الأول، أعلن "ترامب" الانسحاب من سوريا، ليعلن على إثر ذلك "أردوغان"، في 21 من نفس الشهر، تأجيل عملية شرق الفرات. وفي ذات اليوم أعلن جاويش أوغلو عن اجتماع سيعقد في واشنطن في 8 يناير/كانون الثاني المقبل، مشيرًا إلى الاتفاق على إنشاء ثلاث مجموعات عمل مشتركة بين أنقرة وواشنطن، مهمتها بحث الانسحاب الأمريكي من سوريا خلال الاجتماع المزمع عقده في واشنطن. وفي 22 ديسمبر/كانون الأول، أشار "ترامب" إلى أن القوات الأمريكية ستغادر سوريا بعد أن هزمت "تنظيم الدولة"، وبإمكان تركيا التعامل مع بقايا التنظيم. وفي 23 ديسمبر/كانون الأول، صرح "ترامب" بأنه وفي اتصال هاتفي مع "أردوغان" تحدث عن انسحاب بطيء ومنسق بدقة للقوات الأمريكية من المنطقة، وبعدها أعلنت الرئاسة التركية أن الرئيسين اتفقا على التنسيق عسكريًّا ودبلوماسيًّا لعدم السماح بوجود أي فراغ. أخيرًا في 25 ديسمبر/كانون الأول، أفادت ممثلة البنتاغون هيذر بوب بأن العسكريين الأمريكيين والأتراك الرفيعي المستوى سيعقدون لقاء هذا الأسبوع، لمناقشة الوضع في شمال شرق سوريا.
إن التنامي الحاصل في تحسن العلاقات الأمريكية التركية منذ الإفراج عن القس الأمريكي، ومستوى الزخم الحاصل في الحديث عن لقاءات واتصالات هاتفية وتنسيق حول عملية الانسحاب، يرجح بشكل كبير أن هناك ثمة تنسيق واضح بين الجانبين الأمريكي والتركي في عملية الانسحاب الجزئي المرتقبة. ومع ذلك يرتب هذا الانسحاب أياً كانت طبيعته، تحديات سياسية وجيوعسكرية قد تعود بالسلب على تركيا.
وهنا يجب الإشارة إلى مفارقة هامة، وهي أن مشكلة تركيا الأساسية ليست مع وجود القوات الأمريكية في سوريا، وإنما مع الدعم الأمريكي المقدم لخصمها الكردي عسكريًّا ولوجستيًّا وسياسيًّا. بل على العكس، فإن استمرار القوات الأمريكية جنبًا إلى جنب مع التركية في الشرق السوري يعد أفضل من الانسحاب الأمريكي، لعدة أسباب: أولًا وجود أمريكي في سوريا يثقل سياسيًّا من الموقف التركي في مواجهة روسيا وإيران. ثانيًا تنتشر الوحدات الكردية في مساحات شاسعة شرق الفرات تصل لطول 500 كم، ومن الصعب على تركيا السيطرة وحسم هذه المنطقة كلها عسكريًا، ومن ثم تواجد أمريكي بها بدون "قوات سوريا الديموقراطية" أفضل من قوات النظام وإيران. ثالثًا تمثل بعض مناطق شرق الفرات أهمية وأمن قومي لتركيا وليس كل المنطقة، خاصةً المتعلقة بالشريط الحدودى السوري الشمالي. رابعًا انسحاب أمريكي سوف يدفع الأكراد للتحالف مع النظام، وإذا ترددت روسيا في ذلك حفاظًا على علاقاتها وتفاهماتها مع تركيا، فإن إيران لن تترد في اقتناص هذه الفرصة. وأخيرًا يصب العامل الجيوعسكري في صالح النظام وحلفائه؛ نظرًا لانتشارهم في بعض جيوب شرق الفرات، وهو ما يسهل عليهم عملية السيطرة، وحتى لو تمت السيطرة بالتفاهمات السسياسية، فستكون تلك الحقيقة ورقة ضغط تستخدمها روسيا وحلفائها.
ومن ثم فعلى الأرجح تُفضل تركيا بقاء أمريكي في الساحة السورية، مع فك الارتباط بينهم وبين "وحدات حماية الشعب" الكردية، وإبعاد الأخيرة كحد أدنى عن الشريط الحدودي الشمالي، وإنهائها تمامًا كحد أقصى، مع تشكيل مجالس محلية إدارية تعبر عن سكان المنطقة، وتكسر السيطرة السياسية لقوات سوريا الديموقراطية على هذه المناطق، وإعطاء دور كبير لقوات "بشمركة روج آفا" الكردية الحليفة لتركيا. ويبدو أن كثير من هذه الرغبات قد يتحقق في المدى المنظور.
تداعيات الانسحاب على تركيا
أولًا، في حالة الانسحاب الجزئي،
مع ترجيح فرضية التنسيق الأمريكي التركي، يمكن لتركيا التموضع بنجاح في هذه المناطق لسببين؛ أولًا مع استمرار تواجد أمريكي نوعًا ما قد يلعب دورًا في كبح جماح الأكراد نسبيًّا فيما يتعلق بتحالفهم مع النظام وحلفائه، ثانيًا عدم وجود موقف روسي قوى معارض لهذه الخطوة. لكن ذلك قد يتوقف بشكل أكبر على حجم وطبيعة المناطق التي ستحل فيها تركيا محل نظيرتها الأمريكية، خاصةً إذا كانت مساحات بسيطة ترتبط أكثر بمناطق حدودية شمالية فضلًا عن منبج حينها قد يكون الاعتراض الروسي ضعيف، لكن حتى في تلك الحالة قد تستغل روسيا تلك الفرصة في مزيد من التنازلات التركية.
ولعل هذا ما يفسر تصريح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، الذي قال فيه أن الجيش التركي يوجد في إدلب بالاتفاق مع دمشق. لا يرغب "لافروف" من هكذا تصريح شرعنة الوجود التركي، بقدر ما هي رسالة في ظل تزايد التفاهمات الأمريكية التركية حول سوريا، والتي لا تلقى قبولًا لدى روسيا، مفادها من ناحية بما أن الوجود التركي في إدلب جاء بموافقة سورية، ومن ثم يجب أن يكون تواجدها المحتمل في شرق الفرات بموافقة سورية أيضًا. من ناحية أخرى أنه في حال حدث أى تطور في شرق الفرات لا يتناسب والمصالح الروسية وحلفائها، فبإمكان النظام السوري أن يطلب من تركيا الخروج من إدلب كرد فعل. ومن ثم في حال حدث انسحاب جزئي بتنسيق أمريكي تركي، لابد أن يتم ذلك بتنسيق أيضا مع روسيا.
ثانيًا، في حالة الانسحاب الكامل،
في هذه الحالة حتى ولو كان هناك تنسيق أمريكي تركي، فإنه من الصعب على تركيا وحلفائها السيطرة على كل هذه المنطقة التي تمثل 30% تقريبًا من مساحة سوريا، وحينها من الممكن أن تلعب التفاهمات السياسية من ناحية وموازين القوى على الأرض التي ستحكمها العوامل الجيوعسكرية من ناحية أخرى دورًا في حسم الجغرافيا العسكرية لشرق الفرات.
بالنسبة للتفاهمات السياسية، هل تستطيع روسيا أن تصمد حينها أمام إغراءات الأكراد بعد تخلي الأمريكان عنهم كليًا، بتسلم المنطقة محل أمريكا؟ هل تستطيع حينها تركيا تقديم ثمن مقابل صمود الروس؟ وهل تتخلي عن إدلب مقابل التمركز في الشريط الحدودي الشمالي؟ وإذا صمد الروس فهل يصمد الإيرانيون وميليشياتهم؟
كل هذه الأسئلة تشير لحجم المأزق والتعقيد الواقع فيه صانع السياسة الخارجية التركية.
بالنسبة للعامل الجيوعسكري، تظهر هنا أفضلية نوعًا ما للنظام السوري وحلفائه، فقوات النظام لها عدة تمركزات في منطقة الشرق الفرات، في جيبين متفرقين في الحسكة، بالإضافة إلى أن جزء من دير الزور الذي تسيطر عليه قوات النظام يقع شرق الفرات. وبالتالي فبالنسبة لسرعة الانتشار وفرض السيطرة على الأرض تمثل أفضلية لقوات النظام التي ستكون مدعومة بالوحدات الكردية. حيث يمكن لها التدخل من خلال ثلاث محاور: محور الحسكة في الشمال الشرقي، ومحور دير الزور في الجنوب الشرقي، ومحور حلب في الشمال الغربي.
أما القوات التركية فيمكن أن تدخل من محورين: الأول عبر الحدود، وهو الأسهل حيث لا توجد موانع طبيعية، والمرجح أن تكون عبر مدينة "أقشا قلعة" التركية، ومن خلالها تعبر لمدينة "تل أبيض" السورية، ذات الأغلبية العربية. الثاني محور جرابلس في الغرب، والذي قد تنطلق من خلاله إما نحو عين العرب "كوباني"، أو منبج وهي الأرجح، لوجود تفاهمات أمريكية تركية سابقة.
كما الانسحاب الجزئي، فإن التفاهمات السياسية الأقرب في حال حدث انسحاب أمريكي كامل، لحسم السيطرة على هذه المنطقة. بحيث تركز تركيا على المناطق الشمالية الملاصقة لحدودها الجنوبية ومنبج أو جزء منها، في حين تنتشر قوات النظام وحلفائها في العمق، حيث دير الزور وأجزاء كبيرة من الرقة والقامشلي والحسكة. وحينها يمكن لأمريكا معالجة الحضور الإيراني الكثيف في الشرق السوري من خلال تموضعها العسكري في العراق على حدودها الغربية. أما فرنسا فلا تستطيع تحمل تكلفة البقاء في منطقة الشرق الفرات بدون وجود أمريكي ومواجهة تركيا وحدها، فهي تحتاج لبناء قواعد وترسانات عسكرية وزيادة عدد جنودها، في ظل أزمات الداخل التي تمر بها. لكن السؤال الأهم هنا، في حال انسحبت أمريكا نهائيا من الساحة السورية، هل ستحصل حينها على ثمن مقابل ذلك من روسيا؟ أو هل حصلت على ضمانات مقابل أن تترك كل هذه المنطقة الخطرة من الناحية الجيوأمنية؟.
ومؤخرًا، وكرد فعل على إعلان قرار الانسحاب، قامت تركيا بحشد عسكري هو الأضخم منذ سنوات على حدودها الجنوبية من ناحية، وفي مناطق سيطرتها في جرابلس على الحدود مع منبج السورية من ناحية أخرى. كما حشدت قوات النظام والميليشيات الإيرانية قواتها تجاه مناطق دير الزور الشرقية، ودخلت قوات النظام لبلدة تابعة لمنبج بتنسيق مع قوات سوريا الديموقراطية. كذلك دعت "وحدات حماية الشعب" الكردية قوات النظام لتأكيد السيطرة على المناطق التي انسحبوا منها خاصة منبج، لحمايتها من الهجمات التركية.
وبالتالي هذه المعطيات تجعل من مدينة منبج بؤرة صراع مشتعل، سوف يتم حسمه قريبًا.
خاتمة
بعد التطرق لحيثيات قرار الولايات المتحدة بالانسحاب العسكري من سوريا، واستنادًا لأبعاد القرار وردود الفعل عليه والسيناريوهات المحتملة، في القلب منها الحسابات التركية، يجب الإشارة إلى:
أولًا، ربما أراد "ترامب" من خلال هذا القرار أن يفي بأحد وعوده الانتخابية، وأن يتخلص من معارضيه المزعجين له داخل إدارته "ماتيس"، وأن يصلح علاقاته مع حليف إستراتيجي كتركيا، وينقذ حليف قوى من السقوط محمد بن سلمان، وإحداث تباعد تركي روسي، يدفع تركيا للتمسك بأمريكا، ويفقدها القدرة على المناورة، وتباعد تركي إيراني أكثر احتمالًا، يدفع تركيا لدعم العقوبات الأمريكية على إيران، فضلًا عن ضمان تحمل السعودية تكلفة إعادة إعمار سوريا. في نفس الوقت عدم خسارة إسرائيل والخليج ومصالح بلاده في سوريا في حال كان انسحابه جزئيًّا فقط، وهو ما ترجحه الورقة. كما يبدو أن هناك اتجاه أمريكي لإعادة تموضعها عسكرياً في المنطقة، بعد القضاء بشكل شبه كامل على "تنظيم الدولة" في سوريا، تتمثل في تكثيف الحضور العسكري في العراق بالقرب من الحدود السورية والأردنية، وتقليل التواجد العسكري في سوريا.
ثانيًا، يمكن تقسيم مناطق شرق الفرات لثلاثة مستويات: الأول الشريط الحدودي الشمالي ومرجح أن تسيطر تركيا على جزء كبير منه، والثاني الشريط الحدودي الشرقي ومُرجح أن تظل الولايات المتحدة مستقرة فيه؛ لقطع الممر البري الإيراني، فالاقتصار فقط على التواجد الأمريكي في العراق لا يكفي، في ظل سيطرة إيران وحلفائها على بعض المعابر من الناحيتين السورية والعراقية. والثالث عمق شرق الفرات حيث آبار النفط والغاز، وهذه من الممكن للولايات المتحدة أن تنسحب منها، ولكن لابد من ثمن مقابل؛ لأن روسيا وحلفائها من سيخلفون أمريكا في هذه المنطقة، لأسباب سياسية وجيوعسكرية وموازين القوى على الأرض، ولا يوجد ما يشير حتى الآن لصفقة أو ثمن حصل عليه الأمريكان وحلفائهم.
ثالثًا، إن الإجابة على سؤال هل يمثل هذا القرار توريط لتركيا في المنطقة أم لا؟ يتوقف على تركيا وكيفية تعاطيها مع هذا القرار. خاصةً إذا حجمت وحددت الجغرافيا التي ترغب في ملئها في حدود ما يتقاطع مع أمنها القومي فقط من ناحية، واستطاعت إدارة وخلق تفاهمات سياسية قوية مع روسيا وحلفائها من ناحية أخرى. وبالتالي حينها قد يؤدي القرار الذي كان مرجحًا أن يُصلح العلاقات الأمريكية التركية لمزيد من تعميق العلاقات التركية الروسية. وإذا فشلت هذه التفاهمات، فإن هذا القرار حينها سيكون إيذانًا ببدء صراع عسكري جديد، تخلط معه جميع الأوراق والحسابات السياسية، وتزيد من تعقيد الأزمة وإمكانية حلها.
رابعًا، حتى وإن لم يحدث في المدى المنظور انسحاب أمريكي كامل من سوريا وتخلي نهائي عن الأكراد، فمن المرجح أن يحدث على المدى البعيد. وهو ما ترجحه السوابق التاريخية، فبعد أن ضمنت معاهدة سيفر عام 1920 بعد الحرب العالمية الأولي للأكراد حق إقامة دولة كردستان، جاءت بعدها معاهدة لوزان 1923 وألغت هذا الحق لصالح تركيا. فليس هناك دولة عظمى يمكن أن تفضل مصلحة جماعة دون الدولة وتتحالف معها استراتيجيًّا على حساب دولة بحجم تركيا، بموقعها الجيوإستراتيجي ووزنها الإقليمي.