
في مثل هذه الأيام من 2016، كانت تركيا تواجه تحديًا غير مسبوقٍ وتخوض تجربة لم تعرفها مسبقًا. فالبلد الشهير بالانقلابات العسكرية والتدخلات في الحياة السياسية، التي كان آخرها عام 1997، والتي عرفت استقرارًا سياسيًّا واقتصاديًّا منذ 2002، كانت على موعد مع محاولة انقلابية جديدة ومختلفة عن كل سابقاتها.
أوجه الاختلاف الرئيسة بين الانقلابات السابقة والمحاولة الأخيرة الفاشلة ثلاثة. أولها الجهة التي تقف خلفها، أي الكيان الموازي أو منظمة "فتح الله كولن" الإرهابية (FETÖ)، وثانيها مشاركة الجماهير لأول مرة في مواجهتها وهو الأمر الذي ووجه أيضًا بدموية غير مسبوقة؛ أسفرت عن سقوط 248 شهيدًا، وأكثر من 2000 جريح، وثالثها نتيجتها النهائية أي فشلها في إسقاط الحكومة وتسلم حكم البلاد.
وبالنظر إلى فداحة الحدث وخطورته، وسرية الكيان الموازي وتغلغله في مؤسسات الدولة على مدى عشرات السنين، فقد ترك الانقلاب الفاشل بصماته الثقيلة على تركيا خلال العامين الماضيين، ملقيًا بظلاله على الاقتصاد بشكلٍ مؤقت وعلى الحياة السياسية بشكلٍ أطول أمدًا.
ثمة أربعة متغيرات رئيسة وارتدادات مباشرة وغير مباشرة للمحاولة الانقلابية الفاشلة عاشتها تركيا خلال العامين الماضيين، هي:
الأول، مكافحة التنظيم الموازي وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة. فالتنظيم المعروف بسرّيته وتقيته وسياساته الممتدة منذ سبعينات القرن الماضي للسيطرة على مؤسسات الدولة فرض عملية مكافحة طويلة الأمد ومختلفة، كان من ضمنها إعلان حالة الطوارئ بعيد الانقلاب وتمديدها عدة مرات، آخرها قبل 3 أشهر يفترض أن تكون الأخيرة. ووفق المعلن من التصريحات القيادات الحكومية التركية، فإن عملية المكافحة قد وصلت إلى درجات متقدمة ومُرْضية، الأمر الذي دفع باتجاه عدم تجديد حالة الطوارئ قريبًا، في ظل ما تسببت به من انتقادات داخلية وخارجية.
الثاني، سد الباب أمام أي محاولة انقلابية في المستقبل إلى حد بعيد. فتفاصيل المحاولة الانقلابية، ومواجهتها، ومشاركة الشعب لأول مرة في رفضها ومكافحتها، والثمن الذي دفعته تركيا بسببها، وغيرها من العوامل تجعل من أي محاولة انقلابية في المستقبل مغامرة كارثية غير مضمونة العواقب ولا تملك فرصًا كبيرة للنجاح.
الثالث، انتقال تركيا في مكافحة المنظمات الإرهابية من مرحلة الدفاع إلى الهجوم والمبادرة. فبعد أن كانت عام 2015 تواجه إعلان الإدارات الذاتية وحرب الشوارع في بعض مدنها في الشرق والجنوب الشرقي وتراقب تطور مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (بي كا كا) الإرهابي في سوريا، أخذت أنقرة زمام المبادرة بعد المحاولة الانقلابية مباشرة.
ففي أغسطس/آب 2016، بعد حوالي شهر فقط من الانقلاب الفاشل، أطلقت تركيا عملية درع الفرات لتمنع التواصل الجغرافي بين "الكانتونات" الشرقية والغربية التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب (YPG) الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، منهية العملية في مارس /آذار 2017 بنجاح.
وفي يناير/كانون الثاني 2018، بدأت عملية "غصن الزيتون" لإنهاء سيطرة "الوحدات" على منطقة عفرين في شمال غرب سوريا، فضلًا عن عمليات عسكرية متقدمة في جبال قنديل شمال العراق التي تعتبر المعقل الرئيس للمنظمة الانفصالية.
وأما داخليًا، فقد انتهت منذ فترة طويلة مظاهر المواجهات داخل المدن والأحياء السكنية، وفرضت قوات الشرطة الأمن في تلك المناطق، وكان أبرز مثال على ذلك مرور العملية الانتخابية بسلاسة ودون أحداث تذكر، سيما في مناطق الشرق والجنوب الشرقي التي كانت تشهد في بعض المناسبات الانتخابية السابقة ضغطًا من المنظمة الإرهابية على سكانها.
وقد أفاد كل ذلك السياسة الخارجية التركية وأعطاها زخمًا أكثر في قضايا المنطقة وفي مقدمتها سوريا والعراق، إضافة للعلاقات الثنائية مع بعض الأطراف خصوصًا روسيا والولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا.
الرابع، كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة من أهم الأسباب التي دفعت لمتغيرات مهمة في المشهد السياسي الداخلي في البلاد، فتوثقت العلاقة بين "العدالة والتنمية" الحاكم و"الحركة القومية" المعارض (وبعض الأحزاب الأخرى)، والتي تبلورت في الانتخابات الأخيرة تحت مسمى تحالف الجمهور أو الشعب. وكان من أهم ثمرات هذا التعاون/التحالف مسار تغيير نظام الحكم والإدارة في البلاد من برلماني إلى رئاسي، أولًا في البرلمان ولاحقًا في الاستفتاء الشعبي في أبريل/نيسان-مايو/أيار 2017، وهو المتغير الأبرز في تاريخ تركيا الحديث، والذي بدأ سريانه مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.
في المحصلة، كان للمحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016 ارتدادات مباشرة وغير مباشرة كثيرة على تركيا داخليًا وخارجيًا تركت أبلغ الأثر في الحياة السياسية الداخلية والسياسة الخارجية، وساهمت في ترسيخ التجربة الديمقراطية من خلال تضييق الهامش على أي محاولات انقلابية مستقبيلية، اعتبر "أردوغان" منعها من أهم أولويات المرحلة المقبلة، فضلًا عن مساهمتها بشكلٍ غير مباشر في الخطوة الأكبر التي خطتها تركيا نحو النظام الرئاسي والذي ما زال تجربة جديدة تخطو فيها تركيا خطواتها الأولى.