
تُداهم الأحداث كل شيء في حياتنا، وتدفعنا كي نجاريها ونركض خلفها، تطغى على شأننا وتبعثر جدول أعمالنا، وتفرض علينا وقائع مختلفة.
ظهرت الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية منذ سنوات بعيدة، فكان لكل حركة أو حزب أو تنظيم تأثيراته على العالم، فصارت محل جدل المفكرين والباحثين والأدباء وأصحاب القلم، فالبعض اعتبر ظهور هذه الأحزاب والحركات نقلة سياسية واجتماعية نوعية في التاريخ الإسلامي الحديث في المنطقة، والبعض رأى أن ظهورها أجبر الأطراف الدولية والإقليمية على إعادة النظر في سياستها وتعديل خطواتها.
الحديث المحلي والدولي والإقليمي عن [فشل الإسلام السياسي] ومحاربة أبناء الإسلام للمشروع الإسلامي وانحياز البعض ربما للاتجاهات السياسية المنافسة هو ما شجعني على الكتابة في هذا الشأن، ما فرض عليّ تعديل برنامجي وعناوين مقالاتي، كي تتلاءم مع التطورات الحاصلة، وليكون لقلمي بصمة في توضيح حقيقة ما يُرمى به الإسلام من فشل واتهامات يتراءى للسامع حقيقة ما يقال عنه.
خلفيات وصول الإسلام السياسي للحكم
إن تقدم الحركات الإسلامية للحكم وموقع القرار في كُلٍّ من فلسطين ومصر والعراق وليبيا وتونس والجزائر وغيرها، يحمل دلالات كثيرة على الحاضر والمستقبل، بالرغم من فشل بعض الحركات المُسوِّقة للمشروع الإسلامي، فإننا لا ننكر نجاح أخرى، ولكن قبل الكلام عن الدلالات، لابد من الكلام عن الخلفيات التي جعلت من وصلوا في هذا الموقع المتقدم في الدولة.
باختصارٍ شديدٍ أقول: إن وصول الحركات الإسلامية إلى مواقع متقدمة سببه الرئيس هو سقوط الاتجاهات الأخرى، شرقية كانت أم غربية، لم تستطع الرأسمالية أو الشيوعية أن تنتشلا العالم العربي من الضياع الذي هو فيه، أو أن يُقدما حلولًا جذرية للمشكلات التي يتخبط فيها، وبخاصة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، لهذا لم يبق في أعقاب سقوط الحضارتين الكبيرتين إلا العودة إلى الإسلام والتشبث بذلك، وهو ما فتح الأبواب على مصراعيها للحركات الإسلامية، وهي فرصة أُعطيت للإسلاميين لكي يثبتوا جدارتهم –وليس جدارة الإسلام– عبر تفعيل ونقل الإسلام من الإطار الفكري والنظري إلى الإطار الميداني والعملي، هذا الأمر ينعكس على المدلولات ومستقبليات العمل الإسلامي.
ونجاح الإسلام والإقبال على الإسلام سيؤدي أيضًا إلى تبلور نظام عالمي يعتمد على العدالة الإسلامية بدلًا من البؤس والشقاء الذي تتسبب به غالب الأنظمة القائمة.
التدافع بين الحركات الإسلامية والاتجاهات الأخرى.. الشعوب هم بيضة القبّان
إن وقوع تصادم بين الحركات الإسلامية وبين الجهات الممسكة بالحكم منذ مائة عام هو أمر طبيعي، فلا غرابة في ذلك، فسدنة المعابد والأنظمة يتشبثون –عادة– بمواقعهم، وليس من السهل عليهم أن يتركوها باختيارهم، فالصراع واقع –والوقوع هنا نسبي– من خلال الكثير من الأعمال التي يقومون بها للحيلولة دون وصول الحركات الإسلامية إلى مواقع السلطة في الدولة، ودفعهم إلى خارج دائرة القرار.
ففي مصر مورست الكثير من الأساليب والتعديات لمنع وصول الإسلاميين إلى مواقع القرار، لأن وصول الإسلام لمواقع القرار سيكشف سوءات الأنظمة الفاسدة الموجهة من الخارج، بدليل الدعم الدولي لانقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ممثل حركة الإخوان الإسلامية.
إذن الصراع والتناحر قائم قبل وبعد وصول الإسلاميين إلى مواقع القرار، ووصولهم يعني أن الهجمة عليهم ستكون أكبر، ولكن بحكمة الإسلاميين وسرعة تمكنهم من ملامسة المشكلات التي تعاني منها الشعوب، يمكنهم ربح الشعوب كلها إلى جانبهم.
ولنا خير شاهد وقوف الشعب التركي إلى جانب الرئيس رجب طيب أردوغان والحكومة التركية ضد محاولة الانقلاب الأخيرة، أما حكم الشعوب بالقبضة الأمنية ومضاعفة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية وعدم توفير الأمن والأمان يجعل الشعوب في حالة احتقان ستنفجر يومًا وتعطي انطباعات سلبية على الإسلام، وليس على الإسلاميين، وسيحمّلون الإسلام فشلهم الذريع في ترسيخ المشروع الإسلامي.
إذن الصراع قائم، بلوغ الإسلاميين يمكن –إن أحسنوا إدارة دفة الحكم– أن يثبتوا ويتمكنوا، وهنا مرحلة التمكين في الحكم وعندها يكونون قد أقاموا سياجًا شعبيًّا وحصنًا قويًّا يرد عنهم التعديات.
تقوقع وانزواء الحركات الإسلامية ضمن النطاق المحلي
نلاحظ تقدمًا محليًّا للإسلاميين، ولكننا لا نلحظ تقدمًا لهم على المستوى العالمي، ولا توافقًا إسلاميًّا على صياغة مشروع مُوحَّد، يواجه الضغوط الدولية الموحدة في مشروعها السياسي والثقافي والاجتماعي، وهذه ظاهرة قديمة متجددة تطرح نفسها باستمرار، المشكلة هي أنه ليس هناك مشروع إسلامي عالمي، قد تكون هنالك حركة إسلامية عالمية، إنما تنقصها المنهجية العالمية والأدوات والإشراف القيادي العالمي لتصبح عالمية، ولهذا السبب نرى ضمن إطار العمل الإسلامي مشاريع إقليمية أو محلية لم تصل لليوم إلى العالمية، مع أن ما يواجه الإسلاميين كله عالمي، فالمفروض أن نواجه التحدي العالمي بمشروع عالمي، ولا يمكن لأي مشروع محلي أو قُطري أن يواجه تحديًا عالميًّا.
لذلك حتى تصبح الساحة الإسلامية في مستوى المواجهة، لابد أن ينتظمها مشروع إسلامي واحد، وهذا بالتالي يؤدي إلى احتضان واجتذاب القوى الإسلامية لتأخذ موقعها في هذا المشروع، فتختفي من هذه الساحة، ظاهرة الصراع الإسلامي – الإسلامي (الترخص – التوسط – الغلو – التطرف) حتى هذه الظاهرة ليست ظاهرة صحية، فظواهر وبوادر الانقسام ليست فئوية، ولكنه انقسام منهجي، بل قد يكون أحدهما سببًا للآخر، (التطرف سبب الترخص)، وكذلك الوسطية التي لا تعني التنازلات والمحاباة، فهي الحكمة في وضع الأمور في مواضعها، ومقولة الحق التي يجب أن تقال في هذا الجانب أو ذاك.
إذن مشكلة عدم توحد الساحة الإسلامية تعود إلى غياب المشروع، وتعود –للأسف– إلى ولاءات بعض الحركات الإسلامية لجهات معيّنة (أنظمة أو مخابرات) فلا يكون قرارها ذاتيًّا.
وهذا يؤدي إلى أن تتشكل طوابير في ساحة العمل الإسلامي السياسي تصبح مع توالي الأيام كأنها فتائل تفجير في الساحة، وهذا ما يعيشه الشرق الأوسط اليوم، حيث انقلب الصراع من أن يكون بين الإسلاميين مع المشروع الفارسي والصهيوني والأمريكي إلى أن يصبح الصراع إسلاميًّا – إسلاميًّا بين الحركات والأحزاب، فلابد من مشروع إسلامي عالمي متكامل (اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا وجهاديًّا واقتصاديًّا) وقيادة مركزية عالمية لا علاقة لها بالقطر الذي تشغله، فلا تنشغل بمشاغل قطرها.
المشروع الإسلامي في المواجهة.. فما الحل؟!
نجاح بعض الحركات الإسلامية يجعلها في مواجهة بعض القيادات والأنظمة في الغرب، وليس في مواجهة الغرب إطلاقًا، لأن الإسلام والمنهج الذي نحمل لا يمكن أن يكون لديه عنوان عريض هو شن الحرب على الغرب في الإطلاق، فالإسلام رحمة للعالمين، ونحن من مصلحتنا ومصلحة العالم كله أن نقدم مشروع الإسلام بشكل حضاري، كما نقدمه للشرق على اعتبار أن الإسلام عالمي، ولا يمكن أن يكون عالميًّا إذا اعتبرنا نحن أن الغرب بات عدوًّا لنا، وإنما أصحاب القرار في الغرب، مع نسب مختلفة، فالغرب ليس واحدًا، وهناك فرق بين دولة وغيرها.
لذلك من واجبنا فتح الأبواب على مصراعيها، وأن نتحاور مع الغربيين، ونقدم لهم الإسلام ليعرفوه، لأن أنظمة الحكم هناك من أجل بقائها تقدم الإسلام بشكل مقزز لتُنفِّر منه وتعمل على تشويهه.
وكثيرٌ من السيناريوهات والجرائم تُرتكب –كما هو الحال في الموصل وشمال سوريا وليبيا وغيرها– بفعل استخبارات الـ(CIA) والموساد وغيرهما وتُلصق بعد ذلك بالإسلاميين.
حتى في التشريع الحربي والعسكري في الإسلام، لا يُقاتَل الآخرون إلا إذا منعونا من الدعوة، فدعوة الناس هي أساس عندنا، هذا ابتداءً، فإذا قامت الدعوة وفتحت الأبواب انتفت أسباب الحرب في الإسلام، إلا إذا حصل اعتداء على بلاد المسلمين، فليست الحرب ولا السيف هو الأساس، بل الدعوة هي الأساس، وأتمنى أن يكون هذا التصوّر واضحًا لدى الدعاة والحركات والأحزاب الإسلامية، لأن مهمتنا هي تقديم الدين كمشروع منقذ للبشرية والفرد من مشكلاته وضياعه.
يراهن البعض أن وصول الحركات الإسلامية للسلطة، هو فورة شعبية عاطفية نتيجة الإحباط من الاتجاهات والأفكار الأخرى، وأن هذه الفورة لن تلبث أن تهدأ مع مرور الوقت، خصوصًا مع فشل الحركات الإسلامية في التعامل مع النظم الحديثة، وأن ما يدحض هذا هو أداء الإسلاميين في السلطة، فالأداء هو الذي يحكم بعد ذلك لهم أو عليهم، فقضية (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) و(الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار) هذه هي الجوانب الأساسية، بالإضافة للجانب الأمني (الاستقرار) فالاقتصاد لا يمكن له أن ينتعش إلا في ظل واقع مستقر.
أولويات الحركات الإسلامية في السلطة
وإذا ما أردنا ترتيب أولويات الحركات الإسلامية في السلطة فإن ذلك يعود إلى جملة اعتبارات منها: الساحة التي تعمل من خلالها، والزمن والظروف المحيطة، والإمكانيات المتاحة، ولكن في النهاية علينا تنظيم أولوياتنا دون إهمال أيّ منها، فلا يعني السعي إلى التحرر السياسي إهمال التنمية الاقتصادية مثلًا، ولكن الأولوية يجب أن تكون أولوية اجتماعية لاحتضان كل القوى في مسيرة ومشروع الحكم.
فكثير من الحركات لديها مشاريع للوصول إلى الحكم، ولكن قليل منها من عندها مشاريع للحكم نفسه، فأن تصل للحكم أمر مختلف عن أن تثبت في الحكم وتصحح الأوضاع فيه.
فيمكن لنا أن ننجح في مشروع الثورة السورية، ولكنه لا يعني أننا سننجح في مشروع الدولة، فالثورة تختلف عن الدولة، والثورة أقل مسؤولية من الدولة، فإذا وصلت إلى الحكم، ما هو مشروعك؟! وهل حضَّرت له؟! وما هي آلياته؟! فهذا من شأنه أن يجمع الناس حولك، ويبني سياجًا وحصنًا منيعًا يحميك من الانهيار.