آخر حراس الأقصى

آخر حراس الأقصى
property="content:encoded">

ذهب بعض السياسيين ورجال الأعمال الأتراك في زيارة رسمية لإسرائيل، وكان معهم بعض الصحافيين، وكانت مهمة هؤلاء الصحافيين مراقبة الأحوال، وكانت تلك الزيارة عام 1972م، يقول أحد الصحافيين ويدعى إلهان بردكجي: كانت زيارة إسرائيل ستستغرق أربعة أيام، وقد وصلنا مساء يومٍ من شهر مايو، وقد جرت اتصالات رسمية أولًا مع الجانب الفلسطيني، ثم مع الجانب الإسرائيلي، وفي اليوم الرابع نظموا لنا جولة إلى الأماكن التاريخية السياحية في إسرائيل، يقول الصحافي إلهان بردكجي: كنت متلهفًا لزيارة المسجد الأقصى، ومدينة القدس، وكان الجو حارًّا وكان جسمي يتصبب عرقًا، وقد وصلنا ضِمن قافلة إلى المسجد الأقصى.

وعندما صوَّبتُ الكاميرا في يدي لألتقط الصور شعرت بيديَّ ترتجفان، ثم صعدنا السلالم في الفناء العلوي، يسمونه فناء الاثنَتيْ عشرة ألف شمعة، لأن السلطان سليم الأول عندما دخل القدس أشعل في هذا الفناء اثنَتيْ عشرة ألف شمعة، وصلّى الجيش العثماني صلاة العشاء في ضوء تلك الشموع ومن هنا جاء اسمه.

يقول الصحافي إلهان بردكجي: لفت نظري رجل في زاوية من زوايا الفناء وكان في التسعينات من عمره عليه بزة عسكرية عتيقة أقدم من سنّه، والرقع في جوانبها كلها حتى أن بعضها أعيد ترقيعه، وكان ينتظر هناك واقفًا وعلى الرغم من هرمه وقامته القريبة من المترين كانت وقفته شامخة أبيّة، عرتني دهشة كنت أقول في نفسي مَن هذا الرجل ولمَ يقف هنا؟

سألت المرشد الإسرائيلي عن هذا الرجل فقال لي: منذ زمن طويل وأنا أراه منتظرًا هنا يوميًّا لا يستمع إلى أحد، ولا يتكلم مع أحد، ينتظر فقط غالبًا هو أحد المجانين، يقول الصحافي إلهان بردكجي: كان المرشد يقول: إنه مجنون، أما أنا فقد ازدادت لهفتي لمعرفته، ولِمَ يقف في هذا الحر الشديد هنا؟!
اقتربت منه بفضول الصحافي وكنت مترددًا هل أتحدث معه؟ ثم اقتربت منه جدًّا فلاحظ ذلك، لكنه لم يتحرك قلت له: السلام عليكم يا عماه، أدار وجهه إليَّ قليلًا، وقال بصوت متهدج: وعليكم السلام يا بني، قلت فجأة يا إلهي: إنه تركي، ارتعدت من داخلي، تركي في هذه الأراضي اليتيمة البعيدة عن الأناضول آلاف الكيلومترات، وقلت: ما الأمر يا عماه؟ مَن أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
رد بصوته المرتجف وقال: أنا العريف حسن قائد مجموعة الرشاش الحادية عشرة، السرية الثامنة، في الكتيبة السادسة والثلاثين، من الفرقة العشرين في الجيش العثماني، كانت الرجفة قد اختفت من صوته، غير أنه أعاد تعريف نفسه مرة أخرى، وبصوتٍ أقوى من ذي قبل وكأنه يريد إثبات وجوده ومكانته، ثم قال: هاجمت وحدتنا الإنجليز من جبهة قناة السويس في الحرب العالمية، وكان الجيش العثماني العظيم يحارب في جبهات كثيرة، رغم قلة العدد والإمكانات المعدومة، وهُزم الجيش يا بني في القناة واضطر للانسحاب، وضاعت الأراضي ميراث الأجداد من أيدينا واحدة تلو الأخرى، ثم وصل الإنجليز الكفرة إلى القدس واحتلوها، وبقيت وحدتنا في القدس بوصفها فرقة حرس لمؤخرة الانسحاب.

فقلتُ له: وماذا تعني وحدة حرس لمؤخرة الانسحاب؟ قال: ترك الجيش هذه الوحدة لحماية البلدة المباركة من أعمال السلب والنهب حتى دخول قوات الاحتلال الإنجليزي لها، وكانت الدول قديمًا عندما تحتل مدينة ما، لا يعاملون جنود الدولة المهزومة القائمين بالحراسة معاملة الأسرى، ولهذا طلب الإنجليز عند احتلالهم القدس من الدولة العثمانية أن تُبْقِي كتيبة صغيرة لئلا يثور الناس، وهذه القوات الباقية في مؤخرة الجيش تُسَمَّى قوات حرس الانسحاب.
قلت له: وما حدث بعد ذلك يا عماه؟ فقال: كنا ثلاثة وخمسين رجلًا في القدس بوصفنا حرسًا لمؤخرة الانسحاب، ثم أُمر بتسريح الجيش العثماني بمقتضى معاهدة مودروس ووقف إطلاق النار، وكان قائدنا ضابطًا برتبة نقيب أخذَنا جانبًا وقال لنا: أيها الأسود إن الدولة العثمانية في مأزق كبير، ويسرحون جيشنا العظيم، وقد استدعوني إلى اسطنبول، ولزم عليَّ أن ألبي وإن لم أذهب أكن مخالفًا شروط الهدنة عاصيًا الأوامر، فمن أراد منكم العودة إلى بلده فليفعل، ولكن لو تطيعوني، فلي عندكم رجاء، القدس أمانة مولانا السلطان سليم الأول في أعناقنا فواظبوا على الحراسة هنا كي لا يقول الناس: "إن العثمانيين تخلوا عنا وتركونا، فسيكون ذلك انتصارًا حقيقيًّا لأعدائنا، فلا تضعوا عزة الإسلام".
ثم تعاقبت الأيام والسنون، مرت الأعوام طويلة غير أنها تمضي كلمح البصر، وقد رحل الأصدقاء في الوحدة واحدًا تلو الآخر إلى رحمة الله، لم يستطع الأعداء القضاء علينا، وإنما قضى عليها الزمان، وبقيت وحدي هنا.

يقول إلهان بردكجي: اغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أنصت إليه ثم قال لي: لي عندك رجاء يا بني احتفظت بهذه الأمانة منذ سنين، فهل توصلها إلى أهلها؟ قلت: بكل تأكيد، قال: ألن تعود إلى الأناضول يا بني؟ قلت: بلى، فقال: عندما تعود إلى الأناضول اذهب إلى محافظة توكات فهناك ضابطي النقيب مصطفى الذي كلفني بحراسة الأقصى ووضعه أمانة في عنقي، فقبِّل يديه نيابة عني وقل له: العريف حسن الإغدرلي قائد مجموعة الرشاش الحادية عشرة ما زال قائمًا على حراسته حيث تركته من ذلك اليوم، ولم يترك نوبته قط، وإنه ليرجو دعواتكم المباركة!!
قلت له: سمعًا وطاعة يا عماه، ثم سألني عن مدينتي فقلت: من اسطنبول فأشرق وجهه بابتسامة، وقال: إذن قدمت من عاصمة الخلافة؟ كيف حال العثمانيين يا بني؟ سكتُّ فلم أتحدث عما حدث لهذه الدولة العظيمة، وقلت له: إن دولتنا بخير، ولم أستطع قول الحقيقة.
سألني: إذا كانت دولتنا بخير فلِمَ لا تأتي وتخلص القدس من هؤلاء اليهود؟ فعييت ولم أجد جوابًا، ولم أقل له: إن الدولة العثمانية لا تُذْكَر إلا في كتب التاريخ فقط، ولم يرضَ قلبي أن يؤلم قلبه، فقلت له: سيأتون يومًا ما يا عماه! أقبلت على يديه الخشنتين، وقبلتهما بحرارة ثم قلت له: أترككم في رعاية الله يا عم حسن، فقال: حفظك الله يا بني، بَلِّغ الأناضول مني السلام، فمن العسير علينا أن نرى هذه البقاع المباركة بالعين المجردة، بَلِّغ الدولة العلية مني السلام.

ذهبتُ مع القافلة فشرحت للمرشد أمر العريف حسن، فلم يستطع أن يصدق، وأعطيته عنواني وطلبت منه أن يخبرني بأي شيء يحدث للعريف حسن.
ثم عدت إلى تركيا وذهبت إلى مدينة توكات وبعد جهد وجدت في السجلات العسكرية ملف النقيب مصطفى لكنه قد مات منذ سنوات، ثم تعاقبت الأيام، وفي عام 1982م أثناء عملي في وكالة الأنباء، أخبرني الأصدقاء ببرقية وردت من إسرائيل، قلت في نفسي يا إلهي ما شأني بإسرائيل؟ نظرت إلى البرقية، إنها من المرشد الإسرائيلي، وقد احتوت على جملة واحدة فقط، مات اليوم آخِر جندي عثماني يحرس المسجد الأقصى!!.
 ==============================

المصادر 
بطولات وتضحيات من التاريخ الإسلامي
عبرات في تاريخ العثمانيين
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
 

المصدر: 
أرشيف التاريخ العثماني



تنويه: مقالات الرأي المنشورة بشبكة الدرر الشامية تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي أو موقف أو توجه الشبكة.